“داعش ” يغزو البحر الأبيض المتوسط : تهديد لصغار البحارة وجهود حثيثة للتكيّف

إعلان

“داعش ” يغزو البحر الأبيض المتوسط –

لازالت راضية الجويلي تتذكر تفاصيل قدوم ضيف ثقيل الظلّ إلى شواطئ جربة في صيف 2014:” بعد أن ألقينا الشباك في المكان الذي اعتدنا الصيد فيه، فوجئنا بعدد كبير من العقرب (سلطعون البحر) قام بعضهم بتمزيق جانب من الشباك في حين بدا شكل عدد من الأسماك الأخرى مشوها.”

تعمل راضية ، البالغة من العمر 43 عاما ، مع زوجها بلقاسم شادي في مجال الصيد البحري منذ أكثر من عقد. يستيقظ الزوجان منذ ساعات الفجر الأولى ، يتوجهان إلى شاطئ جربة – أجيم ويتقدمان بضعة كيلومترات بمركبهما الصغير للحصول على صيد مناسب.

” في بداية الألفية الثانية و إلى حدود سنة 2012، كان الصيد وفيرا وكان زوجي بلقاسم يمتلك مركبا أكبر ويدير فريقا مكونا من خمسة بحارة.  لكن مع عزوف الشباب عن العمل في الصيد وانخفاض الثروة السمكية والمشاكل الصحية التي واجهها، يكتفي بلقاسم حاليا بمركب صغير وأشاركه العمل للضغط على النفقات.”

و تضيف راضية : ” عمّق قدوم سلطعون البحر من مصاعبنا، فقد غزا هذا الكائن العدواني مياهنا وتكاثر بنسق سريع دون أن نعرف مصدره وهو ما جعل الخوف يتسرّب إلى نفوس صغار البحارة في جزيرة جربة.”

أطلق البحارة  اسم “داعش”  على هذا الوافد الجديد بسبب فتكه بالأسماك بمخالبه الأماميّة الحادة، آملين أن يكون تواجده في سواحلهم عابرا.

“داعش” أو سلطعون البحر

محاولات لتخفيف الضرر

 أضحى سلطعون البحر أمرا واقعا في تونس مستحوذا على  أكثر من 70 في المائة من المصيد خلال موسم الذروة. لهذا السبب، سعى عدد من البحارة للتخفيف من الخسائر من خلال صيد سلطعون البحر وبيعه إلى معامل تقوم بتعليبه وتصديره إلى الخارج.

” بيع السلطعون إلى المعامل ليس خيارا سيئا لكن مردوديته ضعيفة و نضطر لبيعه بأسعار زهيدة  في ظلّ نُدرة الحرفاء.”

و توضّح راضية:” بالإضافة إلى مشكل الأسعار، تكتفي المعامل بشراء السلطعون ذي الحجم الكبير فقط، ما يجعل نصف الكمية التي اصطادها معرضا للتلف، كما أن هامش  التفاوض على أسعار أفضل يبدو محدودا بسبب ضعف الإقبال على السلطعون محليّا.”

و كشفت راضية أنها تبيع الكيلوغرام الواحد من سلطعون البحر بسعر يتراوح بين دينار واحد و دينار ونصف للمعامل التي تقوم لاحقا بتعليبه وتصديره لوجهات عديدة أبرزها إيطاليا وأستراليا والولايات المتحدة.

بينما رفضت عدة شركات معالجة الإفصاح عن سعر السلطعون الأزرق المعبأ ، يبيع متجر التجزئة الفرنسي كارفور  السلطعون الطازج مقابل 4.5 دينار للكيلوغرام الواحد.

و يبدأ موسم صيد سلطعون البحر حسب ذات المصدر منذ بداية شهر يونيو/ حزيران ويستمر غالبا إلى نهاية شهر تشرين الأول / أكتوبر من كل سنة.

من جهتها، أبرزت  رائدة الأعمال نجاح شعبان ، التي تدير وحدة لتعليب المنتوجات البحرية بمنطقة جرجيس ،   أن السلطون الأزرق ساهم في تعزيز دخل المجتمع المحلي ، مشيرة إلى هذا المنتج الجديد يحظى بإقبال جيّد في الجانب الآخر من حوض البحر الأبيض المتوسط في إيطاليا وجنوب أوروبا.

ونوهت شعبان إلى أن مؤسستها توظّف أكثر من 20 عاملة ، كما قدّمت العشرات من “الدراين” ( أقفاص متعددة الأغراض مصنوعة من البلاستيك)  لعدد من بحّارة جرجيس من أجل الحفاظ على سلامة شباكهم و تمكينهم من صيد السلطعون بطريقة أنجع.

وتحاول السلطات التونسية استغلال شهرة السلطعون الأزرق عالميا لاقتحام أسواق جديدة.  وفي 7 مارس 2022، دشّنت وزيرة الصناعة والطاقة نائلة نويرة القنجي، وحدة صناعية كورية جنوبية جديدة بفضاء الأنشطة الاقتصادية بجرجيس  وهو المشروع الاول من نوعه في تصدير لحم السلطعون الازرق المبستر و من المتوقع أن يخلق ما بين 500 و700 موطن شغل خلال سنته الأولى.

و ارتفعت صادرات السلطعون الأزرق خلال شهر مايو/أيار 2021  لتبلغ 090.9 2 أطنان بقيمة 7.2 مليون دولار أمريكي (حوالي 19.6 ملايين دينار تونسي)، أي أكثر من ضعفي الصادرات لنفس الفترة من عام 2020 والتي لم تتجاوز 796.1 طن بقيمة 3.1 مليون دولار أمريكي (أو 8.6 ملايين دينار).

يباع السلطعون الطازج في متجر التجزئة كارفور بسعر قدره 4,5 دينار للكيلوغرام (تصوير أشرف الشيباني)

“داعش ” يغزو البحر الأبيض المتوسط –

غموض يشوب مصدرها

بعد ظهوره  بشكل عرضي في التسعينات ، توغّل   السلطعون بأعداد هامة في خليج قابس (جنوب شرق تونس) سنة 2014. و واصل الكائن الجديد تمدده في سواحل شمال إفريقيا حيث شوهد للمرة الأولى في  أبريل 2017 غرب مدينة طبرق الليبية. كما تم رصده في سواحل مدينة جيجل الجزائرية سنة 2018 .

و تنتشر في تونس روايات عديدة حول الطريقة التي دخل بها سلطعون البحر، لكن بصمات  النشاط البشري تبدو واضحة حيث يرجّح خبراء تحدثوا لموقع “Youth Magazine” أنّ السفن التجارية خصوصا بواخر النفط ساهمت في غزو كائنات جديدة للسواحل التونسية.

و يقول الخبير البيئي الإيطالي و رئيس منظمة”QG Enviro” جوزيبي سكاندون: “لا يمكننا أن نتخيل أن السلطعون الأزرق وصل إلى البحر الأبيض المتوسط وحده ، و لكن  من خلال  مياه الصابورة للسفن الكبيرة التي تصل إلى الموانئ و تقوم بتفريغ شحناتها “.

وأبرز الخبير البيئي العروسي بالطيب أنّ مياه الصابورة التي يستخدمها البحارة لموازنة السفينة عندما  تكون فارغة تمثل بيئة مناسبة لتعشيش العديد من الكائنات الغازية سريعة التكاثر.

و أوضح بالطيب أن الصيد العشوائي في سواحل البحر الأبيض المتوسط أدى إلى تقليل أعداد مفترسها الطبيعي الوحيد وهو الأخطبوط الذي كان يتربص بهذا النوع من الكائنات البحرية و فسح المجال أمام السلطعون الأزرق  ليفتك بالرخويات المحليّة.

في حين اعتبر الخبير البيئي العراقي خالد سليمان أنّ تغيّر المناخ هو السبب الرئيسي لغزو سلطعون البحر لسواحل البحر الأبيض المتوسط  مشيرا إلى أنها قادمة عبر قنوات مائية من قناة السويس.

و حذّر سليمان من أنّ هذا الكائن الغازي  تهديد حقيقيّ للتنوّع البيولوجي و لمصدر رزق آلاف البحارة إذا لم تقم الدول المتضرّرة بإنجاز برامج مشتركة لتقليل الخسائر على غرار تسويق سلطعون البحر محليّا وعالميّا.

و تعاني بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط من تواتر موجات الحر مسببة أضرار بالغة مثل حرائق الغابات والجفاف وفقدان المحاصيل.

و مع ذلك، فإن زيادة درجات الحرارة في البحر يمكن أن يلحق أضرارا جسيمة لهذه الدول   التي تضم أكثر من 500 مليون شخص، إذا لم يتم التعامل معها بأسرع وقت ممكن، وفقًا للعلماء، لأنها يمكن أن تتسبب في استنزاف الأرصدة السمكية.

و رغم  أن البحر الأبيض المتوسط يمثل أقل من 1٪ من المياه السطحية البحرية في العالم، إلا أنه من أهم خزانات التنوع البيولوجي البحري، حيث يحتوي على ما بين 4٪ و 18٪ من الأنواع البحرية في العالم.

غياب تنسيق مشترك بين دول البحر الأبيض المتوسط

يبدو سلطعون البحر رقما صعبا  في الحياة البحرية للدول المطلة على البحر الأبيض المتوسط. حيث ساهم في توفير مصدر دخل موسميّ للعشرات من الشباب العاطل عن العمل بغزة (فلسطين) والعرائش (المغرب) وغيرها.

مع ذلك، تبدو المجهودات الحكومية في مختلف هذه الدول محتشمة و تفتقد للتنسيق مما يعمّق أزمة قطاع الصيد البحري الذي يعاني أساسا من صعوبات هيكليّة.

و يعتبر الباحث في السياسات الريفية والنضالات الزراعية هيثم صميدة قاسمي أن السياسات النيوليبرالية المفروضة بشروط الديون على الحكومات العربية عمقت  الهوة بين الدولة والمجتمع إذ رفعت الحكومات يدها عن مهمة التخطيط الاقتصادي والتسيير الاجتماعي لعلاقات الإنتاج والتبادل والتوزيع و توجهت نحو مبدأ “حوت ياكل حوت وقليل الجهد يموت”.

من جهته،  يدعو الخبير البيئي سكاندون إلى استثمار المزيد من الأموال في مراقبة الأنواع مثل السلطعون الأزرق ، حاثا الصيادين على صيدها  وبيعها للمطاعم  من أجل السيطرة على تعدادهم في البحر. “نحن نعلم بالفعل أن التكيف مع مناخ يتغير بسرعة يبدو صعبا، لذلك نحن بحاجة إلى تغيير طريقة تفكيرنا وتركيز جهودنا على الحلول الإبداعية للسيطرة على الأنواع الغازية”.

ينبغي على تونس و الدول المطلة على المتوسط ككل أن تتعامل بشكل فعال مع مشكلة السلطعون الأزرق  من خلال تنفيذ إنشاء سياسات وبرامج مستدامة لا تعالج سبل عيش الصيادين فحسب ، بل تتناول آثار تغير المناخ على نطاق أوسع لأنّ هذا الغزو البيئي هو واحد من عدد لا يحصى من التحديات التي تؤثر أو ستؤثر قريبًا على سكان المنطقة و رفاههم الاجتماعي والاقتصادي، و أضحى التدخل الفوري   للدول و إعطاء الأولوية للجانب البيئي أمرا حتميا.

EN : This story was produced with support from Internews’ Earth Journalism Network.
AR : أُنتج هذا المقال من خلال منحة مقدمة من طرف شبكة إنترنيوز لصحافة الأرض (Internews Earth Journalism Network )

اقرأ/ي أيضا: نفوق الأسماك في الشواطئ التونسية.. تلوّث أم طحالب مجهرية ؟

“داعش ” يغزو البحر الأبيض المتوسط –

“داعش ” يغزو البحر الأبيض المتوسط –