أمَّا أنا فأقولُ: أنْزِلْني هنا. أنا مثلهم لا شيء يعجبني، ولكني تعبتُ من السِّفَرْ

إعلان

محمود درويش لا شيء يعجبني

“يقول مسافرٌ في الباصِ .. لا شيءَ يُعْجبُني لا الراديو و لا صُحُفُ الصباح , و لا القلاعُ على التلال. أُريد أن أبكي

يقول السائقُ: انتظرِ الوصولَ إلى المحطَّةِ, وابْكِ وحدك ما استطعتَ

تقول سيّدةٌ: أَنا أَيضاً. أنا لا شيءَ يُعْجبُني. دَلَلْتُ اُبني على قبري’ فأعْجَبَهُ ونامَ’ ولم يُوَدِّعْني

يقول الجامعيُّ: ولا أَنا لا شيءَ يعجبني. دَرَسْتُ الأركيولوجيا دون أَن أَجِدَ الهُوِيَّةَ في الحجارة. هل أنا حقاً أَنا؟

ويقول جنديٌّ: أَنا أَيضاً. أَنا لا شيءَ يُعْجبُني. أُحاصِرُ دائماً شَبَحاً يُحاصِرُني

يقولُ السائقُ العصبيُّ: ها نحن اقتربنا من محطتنا الأخيرة’ فاستعدوا للنزول..

فيصرخون: نريدُ ما بَعْدَ المحطَّةِ.. فانطلق!

أمَّا أنا فأقولُ: أنْزِلْني هنا. أنا مثلهم لا شيء يعجبني، ولكني تعبتُ من السِّفَرْ “.. محمود درويش

——

برأيي هذه القصيدة من أجمل ما كتب المناضل و الشاعر الفلسطيني محمود درويش الذي لطالما كان قلمه مختلف عن بقية الأدباء فله فلسفة و حبر خاص.

لا شيء يعجبني هي ما نبع من القلب الخافق بالحياة لشاعر صمد رغم تقلبات و غدر الأيام. تراود على القصيدة الطابع التكراري تكرار نفس الجملة بنفس الإيقاع للسجعية و التأكيد على ما يراود بال و ما يشغل تفكير الشاعر.

في البيت الأول يوضح كيف مل المسافر من الراديو و الصحف أي من الذوق العام الطاغي و من القيل و القال، مل من نفس الوجوه و الشعارات المزيفة و كأن الشاعر تنبئ بالوضعية الراهنة، هذه الموجة من الرداءة و الركاكة الفكرية التي تعصف بعقول الشباب لتجعل منهم أشباه عقول في سبات عميق لا تفقه ما تتحدث عنه بل لا تعي بخطورة تيار الميوعة و تقديس الإنحطاط الأخلاقي و تقبيل أيادي الإعلاميين بإنجازاتهم التافهة، حيث أصبحنا كالغنم يستهوينا كل ما يبلغ قائمة الأكثر مبيعا من كتب تجارية و الأكثر إستماعا لأغان لأشباه الفنانين و الأكثر مشاهدة لأفلام بدون معنى و تتحكم بنا الأشياء و نصبح مثل القشة في مهب الريح لا يمكننا الصمود.

 

اقرأ/ي أيضا: الإسلام بين ما يروّج له و جوهره الحقيقي

– محمود درويش لا شيء يعجبني –

[better-ads type=”banner” banner=”3941″ campaign=”none” count=”2″ columns=”1″ orderby=”rand” order=”ASC” align=”center” show-caption=”1″][/better-ads]

أما في البيت الثاني فهو يتحدث عن شهداء فلسطين و لوعة أمهاتهن و حرقتهن أما في الوضع الراهن كأنه يحاكي حالة بؤر التوتر و خاصة المجموعات الارهابية التي تستقبل الآلاف من الشباب المدمغج الظان أنه سيبلغ الفردوس و هنا يمكن حتى الحديث عن سوء فهم العديد منهم لدين الإسلام الذي ينص على السلام و التسامح و التأخير و قبول الآخر المختلف و إحترامه لا القتل و الفتك بأرواح الناس و هنا الأم تنتحب و تبكي لموت إبن رحل كأوراق شجر شهر سبتمبر و لم يعد تاركا إياها أمام قبره متلوعة.

البيت الثالث طالب الأركيولووجيا رغم دراساته المتعمقة فهو في حرب مع الذات يبحث عن هويته و جذوره في معركة الهوية مع عولمة متوحشة ملغية للأصول و العادات و هذه القضية تفاقمت أكثر خاصة مع أمركنة العالم و فقدان الهوية و هل يمكن لنا العيش دون هوية؟ من نحن ؟ أما البيت الرابع فالجندي يحارب ما خلقته التحالفات و تكتيكات الدولة أي أنه يدافع عن وطن سيخونه حكامه الذين أقسموا على حمايته فأقتسموه دون رحمة و تلذذوا بخيراته ليموت في الأخير جنود في أعمار الزهور، و هذا حال كل البلدان يبيعها حكامها و يسقيها شعبها الدماء. يصرخون نريد ما بعد المحطة أي أنهم سئموا وحل القرف الذين يتواجدون فيه و هم على إستعداد للتمردد من أجل إستنشاق هواء جديد على حاكم مستبد أما درويش فقد سئم السفر أي أنه مرهق من كل ما يحدث و قد خارت كل قواه من نضال و خط الألم و البكاء على الوطن فشدة وعيه و فطنته قد أثقلت كاهله و هو لا يقوى على الحراك تعب من السفر.

كل الشخصيات في الحقيقة تمثل بعدا من أبعاد الشاعر و بجمل بسيطة تحمل في طياتها معان يشكي محمود درويش حاله دون إنتظار شفقة أحد.

لا شيء يعجبني هو تجسيد لحالة درويش النفسية حينها و تلخيص لوضعية المثقف الذي لا يجد من يتفهمه بل يجد العديد من العوائق أمامه دون شفقة. هذه القصيدة أيضا و بالرغم من واقعية شخصياتها إلا أن لا أحد من أطرافها يجرأ حقا على التعبير عن رأيه بكل حرية في ذلك الزمن و حتى الآن يختبأ العديد خلف ستار الأكاذيب و الأوهام خشية من أن تعمي بصيرتهم نور الحقيقة. هذه القصيدة كأنها أفوريا أو مفهوم للمدينة الفاضلة لأفلاطون بأسلوب درويشي بإمتياز، ركاب ثورييون مأمنون بالقيم و المبادئ ميقنين للخلل و النقائص طامحين للعيش الكريم أما السائق الغاضب المستعجل فهو ذلك الجدار الذي لا يسمح لأحد بالمرور أو التغيير، حاكم مستبد أو أحكام مسبقة أو جهل حالك أو وباء الذل و الخوف و الخضوع.

 

– محمود درويش لا شيء يعجبني –

[better-ads type=”banner” banner=”3938″ campaign=”none” count=”2″ columns=”1″ orderby=”rand” order=”ASC” align=”center” show-caption=”1″][/better-ads]

اقرأ/ي أيضا: الإسلام بين ما يروّج له و جوهره الحقيقي